لم يمنع زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وشدة خوفه من الله عز وجل، وكثرة عبادته، من دوام بشره، وطلاقة وجهه، وملاطفته لأهله وأصحابه، فكانت معاملته صلى الله عليه وسلم لأهله وأصحابه والناس كافة أكمل معاملة وأحسنها، كما شهدت بذلك كتب السيرة والأحاديث النبوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
خيركم خيركم لأهله:
الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يحسن معاشرة ومعاملة أهله، ويُولِيهم عناية فائقة ومحبَّة لائقة، فكان مع زوجاته حنوناً ودوداً، تجلّت فيه العواطف في أرقى معانيها، والمشاعر في أسمى مظاهرها، فكان يُكرم ولا يهين، يُوجِّه وينصح، ولا يعنِّف ويَجْرَح، روى أنس رضي الله عنه قال: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله) رواه مسلم. بل وجعل صلى الله عليه وسلم حسن معاملة وعشرة الزوجة معياراً من معايير خيرية الرجال، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في حسن معاملته لأهله (زوجته) النَّظَر إلى الجوانب الحَسَنَة فيها وهي كثيرة، والتغاضي عن عيوبها، فلا تخلو الزوجة من جوانب طيبة متعدِّدة، سواء ما يتعلَّق بالجانب الظاهري الشكلي أمِ الديني والأخلاقي، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَفْرك (يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كَرِه منها خُلُقًا رضيَ منها آخر) رواه مسلم. قال الشيخ ابن عثيمين: “يعني لا يعادي المؤمن المؤمنة كزوجته مثلاً، لا يعاديها ويبغضها إذا رأى منها ما يكرهه من الأخلاق؛ وذلك لأن الإنسان يجب عليه القيام بالعدل، وأن يراعي المعامل له بما تقتضيه حاله، والعدل أن يوازن بين السيئات والحسنات، وينظر أيهما أكثر وأيهما أعظم وقعاً، فيغلب ما كان أكثر وما كان أشد تأثيراً، هذا هو العدل”.
ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لزوجته: مواساتها والتخفيف عنها حين حزنها وبكائها، ورقيتها حين مرضها، فعن أم المؤمنين صفية بنت حىّ رضي الله عنها: (أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حج بنسائه، حتى إذا كان في بعض الطريق، نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: (كذاك سوقك بالقوارير(النساء)، فبينما هم يسيرون، برك بصفية بنت حيي جملُها ـوكانت من أحسنهن مركباًـ فبكت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُخْبِرَ بذلك فجعل يمسح دُمُوعَهَا بيده) رواه النسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا مرض أحدٌ من أهله نفثَ عليهِ بالمعوِّذات) رواه مسلم، وفي رواية الطبراني: (من أهل بيته).
ومِن حسن معاملته صلى الله عليه وسلم لأهله مَدْحُهنَّ، والثناء عليهنَّ، وبيان فضلهنَّ، وما لهنَّ من مزايا، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَمُل منَ الرِّجال كثيرٌ، ولم يكملْ منَ النساء إلاَّ آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء، كفضلِ الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري. وكان صلى الله عليه وسلم يستمع لهن، وربما يعاتِبْنَهُ، ويردِّدن القول عليه، ويقابل ذلك بالصبر والإحسان، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كنا معشر قريش نغلب النساء، فلمَّا قدمنا على الأنصار، إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطَفِق نساؤنا يأخذْنَ مِن أدب نساء الأنصار، فصحتُ على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجِعَنِي، فقالتْ: ولِمَ تُنكر أن أراجعكَ؟، فوالله، إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليُرَاجِعنه، وإن إحداهنَّ لتهجره اليوم حتى الليل) رواه البخاري.
ومِن جميل معاملته وعشرته صلى الله عليه وسلم لأزواجه، حفظه لودَّهُنَّ، واعترافه بِجَمِيلهنَّ حتى بعد وفاتهنَّ، وكذلك حُسن معاملة أهل الزوجة والمقربين منها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غِرْت على نساء النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إلاَّ على خديجة، وإني لم أدركْها، قالت: وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا ذَبَحَ الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عنها: (إنها كانتْ وكانتْ، وكان لي منها ولد) رواه البخاري.
ومن لطيف معاملته صلى الله عليه وسلم لزوجته أنه كان يشرب من موضع شربها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنتُ أشربُ وأنا حائضٌ، ثم أُنَاوِلُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيَضَعُ فاه على موضِعِ فيَّ فيشرب، وأَتَعَرَّقُ العَرَقَ (تأكل من العظم الذي عليه لحم)وأنا حائضٌ، ثم أُنَاوِلُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيَضَعُ فاه على مَوضِعِ فيَّ) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة الا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى فِّيّ امرأتك) رواه البخاري. قال ابن كثير: “وكان من أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه جميل العشرة، دائم البِشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه”.
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم مع أهله الزوج الحبيب، والموجِّه الناصِح، والجليس المؤانِس، يمازحهن ويداعبهن، ويواسيهنَّ ويمسح دموعهن بيده، ولا يؤذيهنَّ بلسانه أو بيده، يتحمَّل منهنَّ كما يتحمل أحدنا من أهله، وما ضرب بيده امرأةً قط، وكان يوصي أصحابه بزوجاتهم خيراً، فعن عمرو بن الأحوص الجشمي ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوانٌ عندكم) رواه الترمذي، (العوان: الأسير).
ع أصحابه:
في معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من حُسن الخُلق واللين والحُب ما لا يخفي، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)، فكان صلى الله عليه وسلم يتواضع معهم، ويجيب دعوتهم، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويدعو لهم ولأبنائهم، ويمازحهم ويداعبهم، ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان لا يواجه أحداً منهم بما يكره. روى أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدراً، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد، والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة”. وعن أنس رضي الله عنه أيضاً قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم، ويدعو لهم”.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم”. وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: “ما رأيت أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: “جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرّة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهليّة، وهو ساكت وربّما تبسّم معهم”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لا أقول إلا حقاً) قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟!، فقال: (إني لا أقول إلا حقا) رواه أحمد.
ومن جميل وحسن معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه مشاركته آلامهم وآمالهم، وشعوره بأحزانهم، والتخفيف عنهم، وتحويل ألمهم أملاً، ومحنتهم منحة، فعن أنس رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلما رأى ما بهم من النَصَب والجوع قال: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة). فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا) رواه البخاري. وقال قرة بن إياس رضي الله عنه: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، فمات، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة، لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما لي لا أرى فلانا؟)، قالوا: يا رسول الله! بنيه الذي رأيته مات، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن بنيه، فأخبره أنه مات، فعزاه عليه، ثم قال: (يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟)، قال: يا نبي الله! بل يسبقني إلى باب الجنة، فيفتحها لي لهو أحب إليَّ، قال: (فذاك لك)، فقالوا: يا رسول الله! أله خاصة، أم لكلنا؟ قال: (بل لكلكم) رواه النسائي وصححه الألباني.
لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حسن عشرته ومعاملته لأهله وأصحابه، وسَمَتْ معاملاته معهم سموًّا لا يدانيه فيه أَحد، فكان صلوات الله وسلامه عليه القدوة الحسنة لنا في ذلك. فما أحوجنا إلى أن نتأسى بهديه صلى الله عليه وسلم، وأن نحول هديه وخلقه وتعامله مع أهله وأصحابه والناس عامة إلى سلوك عملي، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}